. • ه ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾—-
انظرُوا إلى هذه المفارقة المدهشة، والتكريم الإلهي: هذا النبيُّ الذي يتلعثمُ في كلامه (ويشكُو من عقدةٍ في لسانه) يختاره الله سبحانه ليكونَ: كليمَ اللهِ! موسى الذي يصف نفسه بأنه ﴿يَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي﴾ مع الخلق.. ينطلق لسانه مع الخالق! ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ ويبدأ الحوار الكبير/ المهيب: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ؟ قَالَ: هِيَ عَصَايَ.. أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ﴾
——يقول المفسرون في لطيفة من لطائفهم ﴿ولي فيها مآرب أخرى﴾ كان النبي يرجو ويتمنى ان يسأله الله عن تلك المآرب.. ليستمر الحديث بينهما! «مآرب اخرى»: قالها موسى.. ولا يعلم تلك المآرب الأخرى/ الكبرى - والتي ستأتي لاحقاً - سوى من خلق موسى وخلق العصا التي ستكون معجزته، ورفيقته في كل حدث، وبطلة من أبطال حكايته. هل كان بالصدفة أن الحوار يدور حول العصا.. والتي إلى تلك اللحظة لم يكن لها أي دور؟ هل الخالق - سبحانه - يحتاج إلى أن يسأل عن الشئ الذي بيمين موسى، وهو الذي خلق موسى، وخلق العصا، وخلق كل شئ، وهو العليم البصير؟ لا … الحوار كان تنبيهاً لدور «العصا» القادم.. انتبه يا موسى! تلك «العصا» التي في يمينك سيكون لها دور كبير، وستكون معجزتك الكبرى، وسلاحك، ورفيقتك، ومنقذتك. تلك «العصا» التي يُقال عنها الأعاجيب: يُقال إنها كانت تحدث موسى - عليه السلام - وتؤنسه في وحدته! ويُقال إنها عند البئر العميقة تمتد كحبل لتسحب له الماء! ويُقال إنها تضيئ في الليل! ويُقال أن شيئين نزلا من الجنة مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود في الكعبة.. والذي لم يكن أسوداً، وتلك «العصا» وتوارثها الأنبياء من آدم إلى ادريس الى نوح الى إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب.. حتى وصلت إلى حفيدهم موسى! كل هذه الأشياء التي قيلت عن «العصا» لا يوجد لها سند صحيح في السنة، ولم يرد ذكرها في القرآن الكريم.. ولكن الذي تم ذكره في القرآن عنها، وبشكل صريح وواضح، وبطرق أعجب وأعظم مما قيل، هو: - أن تلك العصا شقت البحر، وصنعت ممراً آمنا لبني إسرائيل. - وأنه ضربها بالحجر فأنفجر إثنى عشر عيناً. - وأن تلك العصا، وفي تلك المواجهة الكبرى مع كبار السحرة وأمام الجماهير الغفيرة - تحوّلت إلى أفعى ضخمة، ابتلعت كل سحر السحرة.. ولأن هؤلاء السحرة في ملعب السحر، ويعلمون ما هو السحر؟.. وما هو الشئ الخارق للعادة.. الأعلى من السحر وألعاب الخفة؟!.. اصابتهم الدهشة..
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾… و… ﴿قَالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ويُخيّل لي أن الفرعون بطغيانه واستبداده وغطرسته وغروره، لم يستوعب ما حدث! كأنه قال للسحرة: أنا ربكم الأعلى.. هل تجددون إيمانكم بي؟! ورغم يقين السحرة بالمخاطرة التي هم مقبلين عليها.. قالوا: لا… آمنا برب العالمين ﴿رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ﴾ تحديداً.. وكفرنا بك. هذا (بعض) ما نقله القرآن الكريم عن تلك «العصا» العجيبة الخارقة.. لهذا كان الحوار الإلهي في الوادي المقدس طوى عند جبل الطور يدور حولها، كان تنبيهاً وتدريباً من الرب سبحانه لنبيه عليه السلام قبل أن تبدأ الدعوة..﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾ كان لا بد من بروفة تمتص دهشة وخوف موسى مما ستفعله هذه «العصا» لاحقاً: ﴿قَالَ: أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ : خُذْهَا.. وَلَا تَخَفْ.. سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ﴾ : هلك الطاغيةُ وجنده. تفرَّق السحرةُ. تمزَّقت أعلامه وإعلامه. وكلمات الفصحاء حولك هزمتها كلماتك المتلعثمة! والعقدة التي في لسانك هي أكثر فصاحة من ألسنتهم السليمة، وكلماتها هي الأحلى والأغلى والأعلى.. لأنها الأعذب والأطيب والأقرب إلى الله. ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ﴾ : انتصرت دعوتك.. وكلماتك. وفي كل صفحات التاريخ... ستجد أمام كلِّ موسى: فرعون.. لكنَّك لن ترى أمامَ كلِّ فرعون: موسى!