"، بعد أن انتهى هنري كسينجر من حل مشكلة فيتنام, سلمه ريتشارد نيكسون ملف الشرق الأوسط
ونظرا لأنه كان حديث العهد بهذا الملف، فقد كلف عدد من مساعديه بإعداد دراسات مركزة عن هذه المنطقة. فأعدوها له
كان ضمن الدراسات التي لفتت، بشكل خاص واستحوذت على اهتمام مستشار الرئيس للأمن القومي تقريران أعدهما شاب حديث التخرج، طلب كيسنجر تلخيصهما، ففعلوا، ولكنه عاد فطلب ملخص أكثر تركيزا فلخصوهما له في ورقتين.أخذها وقرأها بعناية وقام بوضعها في الملفات التي حملها معه في رحلته للمنطقة العربية،
كان التقرير: الأول تحت عنوان " الشيخ والخيمة ".
وقد تناول التقرير: الكيفية التي يتم فيها صنع القرار التقليدي بالوطن العربي، وأشار إلى غياب دولة المؤسسات، وغياب المشاركة الجماعية في صناعة القرار، موضحا أن القرارات المصيرية هي الغالب في يد شيخ القبيلة، أيا كان اللقب الذي يحمله، وسواء كان هذا الشيخ يضع فوق رأسه عقالا أو قبعة عسكرية. فالقرار في كل الأحوال تحت سلطة رجل واحد، فمؤسسات الدول الحديثة من وزراء وسلطة تنفيذية، وبرلمان وسلطة تشريعية، وقضاة وسلطة قضائية، وأحزاب ورأى عام ..الخ، ليس لها دور في بلاد العرب
تجلس جنب الشيخ في الخيمة تراقبه وهو يسمع من خاصته حكايات تقترب وتبتعد من موضوعات اهتمامه بشكل أو بآخر،
وترتد إلى حكايات يتداخل فيها الماضي البعيد والقريب، لكنها لا تحتمل أية علاقة مع الواقع المعاش، وعلى هذا الأساس ينتعش فيها الخيال، وتزهو فيها آمال المستقبل، وتتعزز أحلام اليقظة، وتتحقق النشوة.
ويواصل الشيخ إصغاءه لما يقال حوله من قبل مقربيه، ويهز رأسه علامة الرضا عن النفس ثم ينطق الشيخ في النهاية بحكمته "الأزلية، ويتسابق الجميع في التقاط الإشارة، وتتحول هزة الرأس إلى مرسوم له قوة القانون.
والعبرة التي استخلصها كيسنجر من هذا التقرير أن القرار العربي، هو في يد رجل واحد .لا يلتزم بشيء إلا بما يلق هواه ويهز به رأسه في النهاية.
فالشيخ هو الرئيس .والخيمة هي كل ما عداه
وإذن فإن عليه، إذا كان له أن ينجح في مهمته، أن يكتفي بالتركيز على الشيخ المتربع في وسط الخيمة ولا يضيع وقتا مع غيره من المستشارين وبقية الحاشية
فان نجح فى كسب الشيخ واستقطابه ، ستسير الخيمة كلها في ركابه بدون مناقشة ولا تعقيب وستلتزم بما اختاره وارتآه .وستذلل من أجل ذلك كل الصعاب ، وتفتح كل الأبواب ، ولن يجرؤ كائنا من كان أن يقول لا بعد أن قال الشيخ قولته .
أما التقرير الثاني فحمل عنوان " السوق والناقة"
وقد تعرض التقرير لأسلوب التفاوض العربي، وكيف أنه في معظم الأحيان مزايدات ومناقصات، غير مترابطة، وغير متسقة.
تأتي، على سبيل المثال، إلى البدوي لتشتري منه ناقة، فيطلب منك مبلغا خياليا ، مستمد من عوالم الأماني والتخيلات والأوهام , يستحيل عليك القبول به
ثم تبدأ المفاصلة والمساومة، وترتفع الحناجر لتبلغ عنان السماء، ويعم ضجيج وصخب، ويسود احتقان وحزن وغضب في كثير من الأحيان، ويجري القسم بأغلظ الإيمان، ويتتابع استخدام القسم إثر القسم على حسن البضاعة وجدارتها بالسعر المطلوب.
ورويدا رويدا يبدأ العد التنازلي، وفي كل مرة يجري التنازل، ينطلق قسم مغلظ أخر، مؤكدا على أن السعر المطلوب هو آخر سعر يتم القبول به، وأن النزول بعده ظلم كبير، ومع ذلك تظل المساومة على أشدها وتستمر التنازلات حتى تصل في خاتمة المطاف إلى البيع بنصف الثمن الذي بدأت به وأحيانا بربعه.. وفي كثير من الأحيان إلى لا شيء."
وبالفعل حضر كيسنجر الى المنطقة وفعلها .و لا زالوا يفعلونها كل يوم .
(منقول عن كتابي محمد حسنين هيكل/خريف الغضب ، حرب أكتوبر السلاح والسياسة)