إذا استثنينا المساحة النسبية، التي أعطيت لحرية التعبير في ليبيا، بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، عام 2011، فإن المراقب للوضع العام، في هذا البلد العربي الغني والكبير والمهم، لا يدعو للتفاؤل بولادة الدولة الليبية الحديثة، التي حلم بها الثوار قبل 12 عاما.
الجغرافيا الليبية الممتدة على مساحة (1.759.540) كيلومترا، والبالغ ناتجها الإجمالي (45.75) مليار دولار عام (2022) بتراجع أكثر من الثلث، قياسا بأرقام (2011)، والتي وصلت فيها معدلات التضخم إلى مستويات عالية، قياسا بالاستقرار الكبير في العقدين، الذين سبقا ثورة فبراير، وتراجع مؤشرات النمو الاقتصادي، وزيادة معدلات البطالة، وانخفاض مستوى المعيشة، هذه الجغرافيا، التي تشهد هذه المعدلات السلبية، هي نفسها تملك أعلى احتياطي نفطي في ليبيا، فأين المشكلة يا ترى؟.
الحقيقة أن التناحر على تركة القذافي، والسعي من قبل أطراف كثيرة للحصول على أعلى حصة، من هذه التركة، يعد سببا رئيسيا للمؤشرات السابقة، وعندما نقول أطراف كثيرة، فإننا نتحدث هنا عن أطراف داخلية وأخرى خارجية، فالجميع يريد نصيبا، وليبيا تدفع الثمن، على شكل صراعات داخلية، وتجاذبات إقليمية ودولية، وخسائر اقتصادية وبشرية، لا ندي إن كان بالإمكان تعويضها لاحقا؟
ماذا يجري في ليبيا، وهل سقط القذافي فعلا؟، كان الليبيون قبل (2011) يقولون: “نريد حرية وديمقراطية وتنمية متوازنة بين المناطقة وتوزيعا للدخل القومي بشكل عادل، وكانوا يأخذون على نظام العقيد القذافي، احتكاره للسلطات، والإعلام، والأموال، والسلاح، وتقديم القليل من كل ذلك لليبيين الصابرين”، وبعد الثورة، تفاءل الجميع، واعتقدوا أنهم على وشك دخول عصر الدولة الحديثة من بابه الواسع، فالنظام الشمولي سقط، ولا مبرر لغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني.
هل تحقق ذلك، ألا نلاحظ جميعا أن ليبيا تعيش مرحلة انتقالية هي الأطول ربما في التاريخ، 12 عاما، ولا شيء على الأرض، على العكس، الجغرافيا التي كانت موحدة، باتت تبحث عمن يوحدها، الاقتصاد المستقر، بات يبحث عن هوية له، القرار الفردي بات غياب قرار، أو تصارع قرارات، مجالس تمثيلية بالجملة، حكومات بالجملة، لقاءات سياسية، مؤتمرات دولية، اتفاقات يهتف لها الجميع، وينساها الجميع، اشتبكات مسلحة تذهب بالوضع الأمني إلى الهاوية، والأهم فقدان المواطن الليبي لليقين، فما عاد يعرف الحابل من النابل، وما عاد يعرف أي وسادة يتوسد، ضاع بين الشرق والغرب، بين الداخل و الخارج، فهل سقط النظام فعلا؟
جردة سياسية للأوضاع بين (2011) و(2023)
في أغسطس (2011) دخل الثوار العاصمة طرابلس دون مقاومة، بعد انسحاب مسلحي القذافي منها، وأعلن من ساحة طرابلس رسمياً عن سقوط النظام، وعمّت الاحتفالات الساحة الخضراء التي سميّت باسم “ميدان الشهداء”.
في 20 أكتوبر، أعلن مدير المكتب التنفيذي التابع للمجلس الانتقالي الليبي محمود جبريل مقتل معمر القذافي في هجوم للثوار على مسقط رأسه سرت، وشهدت ليبيا أول انتخابات تشريعية بعد 4 عقود من حكم القذافي في يوليو 2012، وصوت الليبيون لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني العام الذي تسلم صلاحيات المجلس الوطني الانتقالي بعد شهر على انتخابه.
عام 2014، انطلق حراك مدني للمطالبة بإجراء انتخابات جديدة وعدم التمديد للمؤتمر الوطني العام، وفي هذا العام، ظهر على الساحة اسم اللواء خليفة حفتر، الذي سيطر مع قواته على شرق ليبيا، وتحولت ليبيا إلى ساحة قتال من جديد، ومع نهاية شهر أغسطس من العام نفسه، تمكن ائتلاف “فجر ليبيا” من السيطرة على العاصمة طرابلس وأعاد تفعيل المؤتمر الوطني العام الذي انتهت صلاحيته بعد الانتخابات.
شكّل الائتلاف حكومة جديدة في طرابلس، وفي الوقت ذاته انبثقت حكومة ثانية عن المؤتمر الوطني المنتخب في شرق البلاد، وانقسمت السلطة في ليبيا بين حكومتين وبرلمانين، وفي عام 2015، رعت الأمم المتحدة اتفاقاَ بين الأطراف الليبية في المغرب، عُرِف باتفاق الصخيرات ونتج عنه تشكيل حكومة وفاق وطني، لكن الأزمة لم تنته.
خلال هذه السنوات تحولت ليبيا إلى مسرح للتدخلات الأجنبية من دول مثل الإمارات ومصر وروسيا وتركيا وبريطانيا وأمريكا، ليبقى الوضع معلقا حتى عام 2020، عندما أطلقت الأمم المتحدة حواراً جديداً في ليبيا تحت اسم “ملتقى الحوار السياسي الليبي” لإنهاء الأزمة السياسية، واتفق المشاركون على تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وحدد تاريخ 24 ديسمبر 2021، موعداً لإجراء انتخابات جديدة.
لكن الانتخابات تأجلت مرة أخرى لعدم الاتفاق على قاعدة دستورية لإجرائها، وعاد الوضع في ليبيا من جديد إلى مرحلة الانقسام والصراع السياسي – العسكري.
واليوم يختلف الليبيون على قانون الانتخابات العامة (الرئاسية و البرلمانية)، ويتشاطر الجميع في التفسير، ولكل تفسيره، وبعد نجاح لجنة (6+6) في صياغة قانون انتخاب جديد وتسليمه للبرلمان، وبدا وكأن هذا الإجراء بلا فائدة، بعد رفض القانون من قبل الفرقاء الليبيين، وباتت الانتخابات حلما مؤجلا من جديد.
ليبيا التي أسقطت نظام القذافي، تعرف تماما أنه لابد من إسقاط نظام المناطق والجماعات والولاءات المحلية والخارجية، وإلا فإنها ستبقى تراوح في مرحلة انتقالية، تستهلك موارد البلاد دون أي هدف، وعلى من أسقطوا القذافي، وهم الآن في سدة السلطة، شرقا وغربا، أن يسقطوا من رؤسهم مفهوم السلطة ومنافعها، لصالح منفعة ليبيا، فعندما تسقط المصلحة الشخصية والحزبية، ترتفع المصلحة الوطنية، الليبيون يعرفون ذلك، فهل يعرفه السياسيون الذين باتوا يتجادلون في جنس الملائكة، بدل أن يتفقوا على صيغة تُعيد للمواطن الليبي ثقته بمؤسساته، وتشعره فعلا أن نظام القذافي سقط، ولن يعود النظام الفردي المصلحي أبدا.